رساله في تاثير الزمان و المكان علي استنباط الاحكام

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رساله في تاثير الزمان و المكان علي استنباط الاحكام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : [قم]: موسسه الامام الصادق(ع)، 1418ق. = 1376.

مشخصات ظاهري : 135 ص.

شابك : 4000 ريال : 964-6243-17-7

وضعيت فهرست نويسي : برونسپاري

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

عنوان ديگر : رساله في تاثير الزمان و المكان علي استنباط الاحكام.

موضوع : بلوغ -- احاديث

موضوع : بلوغ -- جنبه هاي مذهبي -- اسلام

موضوع : مسائل مستحدثه

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP112/6 /س 2ب 8 1376

رده بندي ديويي : 297/2135

شماره كتابشناسي ملي : م 78-1230

تأثير الأزمنة و الأمكنة على الحكم الشرعي في كلام الإمام علي عليه السّلام

سئل عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم «غيّروا الشّيب «1» و لا تشبّهوا باليهود».

فقال عليه السّلام: «إنّما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك و الدين قلّ «2» فأمّا الآن و قد اتّسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار» «3». «4»

______________________________

(1). يريد غيّروا الشيب بالخضاب.

(2). بضم الكاف أي قليل أهله.

(3). أي ان شاء خضّب و إن شاء ترك.

(4). نهج البلاغة، الحكمة 17.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 85

الكلمة المأثورة عن الإمام الخميني قدّس سرّه في تأثير الزمان و المكان على الاستنباط

قال الإمام الخميني قدّس سرّه: إنّي علي اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد على النهج الجواهري، و هذا أمر لا بد منه، لكن لا يعني ذلك إنّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيرا في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنها تتخذ حكما آخر على ضوء الأصول الحاكمة على المجتمع و سياسته و اقتصاده «1».

______________________________

(1). صحيفة النور: 21/ 98.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 86

مقدمة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين و على عباد اللّه الصالحين.

أمّا بعد:

فهذه رسالة مختصرة وضعتها لتبيين تأثير الزمان و المكان أو تغير الأحوال و الأوضاع في استنباط الأحكام الشرعية أوّلا، و الأحكام الحكومية الصادرة لحل الأزمات ثانيا، عسى أن ينتفع بها المعنيون بهذه البحوث.

و بما انّ المسألة من المسائل الشائكة و التي لم تطرح في أوساطنا العلمية و لم تؤخذ بالتحليل و النقد إلّا قليلا آمل أن تكون هذه الرسالة باكورة خير و داعية لروّاد العلم و البحث إلى الخوض فيه على وجه التفصيل.

و اللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 87

قد يطرح الزمان و المكان بما انّهما ظرفان للحوادث و الطوارئ الحادثة فيهما، و قد يطرحان و يراد منهما المظروف، أي تغيّر أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة و تغيرها، و الثاني هو المراد من المقام.

ثمّ إنّه يجب أن تفسر مدخلية الزمان و المكان بالمعنى المذكور في الاجتهاد، على وجه لا تعارض الأصول المسلّمة في التشريع الإسلامي، و نشير إلى أصلين منها:

الأوّل: انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في

التقنين و التشريع، فلا مشرّع و لا مقنّن سواه، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ أَمَرَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ (يوسف/ 40) و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله: أَمَرَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ.

و قال سبحانه: قٰالَ الَّذِينَ لٰا يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس/ 15).

الثاني: انّ الرسول خاتم الأنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة.

روى زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحلال و الحرام، قال:

«حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره، و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره» و قال: قال

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 88

علي عليه السّلام: «ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة». «1»

و لعلّ أوّل من أشار إلى هذه المسألة من علمائنا هو المحقّق الأردبيلي، حيث قال: و لا يمكن القول بكلية شي ء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم. «2»

و هناك كلمة مأثورة عن الإمام السيد الخميني قدّس سرّه حيث قال: إنّي على اعتقاد بالفقه الدراج بين فقهائنا و بالاجتهاد على النهج الجواهري،

و هذا أمر لا بدّ منه، لكن لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيرا في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكما آخر على ضوء الأصول الحاكمة على المجتمع و سياسته و اقتصاده. «3»

إنّ القول بأنّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة مما اتفقت عليه أيضا كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين المذكورين يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و غيرها، فتغيير المصالح ألجأهم إلى تغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة، يقول الاستاذ مصطفى أحمد الزرقاء:

و قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل

______________________________

(1). الكافي: 1/ 58، الحديث 19؛ و بهذا المضمون أحاديث كثيرة.

(2). مجمع الفائدة و البرهان: 3/ 436.

(3). صحيفة النور: 21/ 98.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 89

الزمان و أخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، و هي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الأحكام بتغيّر الزمان».

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرمات المطلقة و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يلحقه بغيره، و سريان إقراره على نفسه دون غيره، و وجوب منع الأذى و قمع الأجرام، و سد الذرائع إلى الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسئولية كل مكلّف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤاخذة بري ء بذنب غيره، إلى غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة

خلافها، فهذه لا تتبدّل بتبدّل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال، و لكن و سائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة «1».

و على هذا فيجب أن يفسر تأثير العاملين بشكل لا تمسّ الأصلين المتقدمين، أي أن نحترز أوّلا عن تشريع الحكم و جعله، و ثانيا عن مسّ كرامة تأبيد الأحكام:

و بما أنّ للزمان و المكان تأثيرا في استنباط الأحكام الشرعية أوّلا، و الأحكام الحكومية ثانيا نبحث عن كلا الأمرين في فصلين مستقلين:

______________________________

(1). المدخل الفقهي العام: 2/ 924- 925.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 90

الفصل الأوّل: تأثير الزمان و المكان في استنباط الأحكام الشرعية

اشارة

إنّ لتغير الأوضاع و الأحوال الزمنية تأثيرا كبيرا في استنباط الأحكام الشرعية، و التأثير يرجع تارة إلى ناحية الموضوع و أخرى إلى جانب الحكم، و إليك البيان:

الأوّل: تأثير الزمان و المكان في صدق الموضوعات

قد يراد من تبدّل الموضوع تارة انقلابه إلى موضوع آخر كصيرورة الخمر خلا و النجس ترابا، و هذا غير مراد في المقام قطعا.

و أخرى صدق الموضوع على مورد في زمان و مكان، و عدم صدقه على ذلك المورد في زمان و مكان آخر، و ما هذا إلّا لمدخلية الظروف و الملابسات فيها.

و يظهر ذلك بالتأمّل في الموضوعات التالية:

1. الاستطاعة. 2. الفقر. 3. الغنى. 4. بذل النفقة للزوجة.

5. و إمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (البقرة/ 231).

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 91

فإن هذه العناوين موضوعات لأحكام شرعية، واضحة و لكن تختلف محقّقاتها حسب اختلاف الزمان و المكان، فمثلا:

1. التمكّن من الزاد و الراحلة التي هي عبارة أخرى عن الاستطاعة له محقّقات مختلفة عبر الزمان، فربما تصدق على مورد في ظرف و لا تصدق عليه في ظرف آخر، كما هو الحال في الإمساك بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية، و تبدّل أساليب الحياة و لا بعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأمس.

2. في صدق المثلي و القيميّ، فقد جعل الفقهاء ضوابط للمثلي و القيمي، ففي ظلها عدّوا الحبوب من قبيل المثليات، و الأواني و الألبسة من قبيل القيميات، و ذلك لكثرة وجود المماثل في الأولى و ندرته في الثانية، و كان ذلك الحكم سائدا حتى تطوّرت الصناعة تطورا ملحوظا، فأصبحت تنتج كميات هائلة من الأواني و المنسوجات لا تختلف واحدة عن الأخرى قيد شعرة، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي

مثليات.

3. في صدق المكيل و الموزون على شي ء حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل، و الموزون بالوزن، لا بالعدّ، و لكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات و المجتمعات، و يلحق بكلّ حكمه.

4. و من أحكامهما انّه لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلا إلّا مثلا بمثل، إذا كانا من المكيل و الموزون، دون المعدود، و هذا يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان، فرب جنس يباع بالكيل و الوزن في بلد و بالعدّ في بلد آخر، و هكذا يلحق بكل حكمه.

هذا كلّه حول تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 92

الثاني: تأثيرهما في ملاكات الأحكام

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولا و مبهما و أخرى يكون معلوما بتصريح من الشارع، و القسم الأوّل خارج عن محلّ البحث، و أمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه.

فلو كان المناط باقيا فالحكم ثابت، و أمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف و الملابسات يتغير الحكم قطعا، مثلا:

1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة، و أصبح التبرع بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم، و بذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه. «1»

2. انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور». «2» و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام و التشفّي، و لم يكن يومذاك أي فائدة

تترتّب على قطع أعضاء الميت سوى تلبية للرغبة النفسية- الانتقام- و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمرا ضروريا يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت.

______________________________

(1). قال السيد الإمام الخميني قدّس سرّه: لم تكن في تلك الأعصار للدم منفعة غير الأكل، فالتحريم منصرف إليه.

(2). لاحظ نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 93

3. دلّت الروايات على أنّ دية النفس تؤدّى بالأنعام الثلاثة، و الحلّة اليمانية، و الدرهم و الدينار، و مقتضى الجمود على النص عدم التجاوز عن النقدين إلى الأوراق النقدية، غير انّ الوقوف على دور النقود في النظام الاقتصادي، و انتشار أنواع كثيرة منها في دنيا اليوم، و النظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات، يشرف الفقيه على أنّ ذكر النقدين بعنوان انّه أحد النقود الرائجة آنذاك، و لذلك يجزي دفعها من الأوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم، و قد وقف الفقهاء على ملاك الحكم عبر تقدّم الزمان.

الثالث: تأثيرهما في كيفية تنفيذ الحكم

1. تضافرت النصوص على حلّية الفي ء و الأنفال للشيعة في عصر الغيبة، و من الأنفال المعادن و الآجام و أراضي الموات، و قد كان الانتفاع بها في الأزمنة الماضية محدودا ما كان يثير مشكلة، و أمّا اليوم و مع تطوّر الأساليب الصناعية و انتشارها بين الناس أصبح الانتفاع بها غير محدود، فلو لم يتخذ أسلوبا خاصا في تنفيذ الحكم لأدّى إلى انقراضها أوّلا، و خلق طبقة اجتماعية مرفّهة و أخرى بائسة فقيرة ثانيا.

فالظروف الزمانية و المكانية تفرض قيودا على إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم، أي حلّية الأنفال للشيعة أوّلا، و حفظ النظام و

بسط العدل و القسط بين الناس ثانيا، بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم الإسلامي الذي يشرف على جميع الشؤون لينتفع الجميع على حد سواء.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 94

2. اتّفق الفقهاء على أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابها، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك، و من المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمرا ميسرا آنذاك، أمّا اليوم و في ظل التقدّم العلمي الهائل، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج الحربية، و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر، فعلى الفقيه أن يتّخذ أسلوبا في كيفية تطبيق الحكم على صعيد العمل ليجمع فيهما بين العمل بأصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات الناجمة عنها.

3. انّ الناظر في فتاوى الفقهاء السابقين فيما يرجع إلى الحج من الطواف حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في منى يحسّ حرجا شديدا في تطبيق عمل الحج على هذه الفتاوى، و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان يوما بعد يوم أعطى للفقهاء رئي وسيعة في تنفيذ تلك الأحكام على موضوعاتها، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج، بل لانفتاح آفاق جديدة أمامهم في الاستنباط.

الرابع: تأثير هما في منح نظرة جديدة نحو المسائل

إنّ تغير الأوضاع و الأحوال الزمنية تضفي للمجتهد نظرة جديدة نحو المسائل المطروحة في الفقه قديما و حديثا. و لنذكر بعض الأمثلة:

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 95

1. كان القدماء

ينظرون إلى البيع بمنظار ضيّق و يفسرونه بنقل الأعيان و انتقالها، و لا يجيزون على ضوئها بيع المنافع و الحقوق، غير انّ تطور الحياة و ظهور حقوق جديدة في المجتمع الإنساني و رواج بيعها و شرائها، حدا بالفقهاء إلى إعادة النظر في حقيقة البيع، فجوّزوا بيع الامتيازات و الحقوق عامة.

2. أفتى القدماء بأنّ الإنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعا لها دون أيّ قيد أو شرط، و كان الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، و لم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلّا بمقدار ما يعدّ تبعا لأرضه، و لكن مع تقدم الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلّط على أوسع مما يعد تبعا لأرضه، فعلى ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعا لأرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدد بما يعد تبعا لها، و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات التي يتوقف تملّكها على إجازة الإمام. و ليست هذه النظرة الشمولية مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.

الخامس: تأثيرهما في تعيين الأساليب:

اشارة

إنّ هناك أحكاما شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجا و أنجع في التقويم علاجا، و إليك بعض الأمثلة على ذلك:

1. الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغيّر و لكن الأساليب

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 96

المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلى مقتضيات الزمان التي تتغير بتغيّره، و لكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت إلّا أمر واحد و هو قوله سبحانه: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (الأنفال/ 60) و أمّا غيرها

فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.

2. نشر العلم و الثقافة أصل ثابت في الإسلام، و أمّا تحقيق ذلك و تعيين كيفيته فهو موكول إلى الزمان، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأصل الكلّي حسب مقتضيات الزمان.

3. التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتى إنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر بخضب الشيب و قال: «غيّروا الشيب و لا تشبهوا باليهود»، و الأصل الثابت هو صيانة المسلمين عن التشبّه بالكافرين، و لما اتسعت دائرة الإسلام و اعتنقته شعوب مختلفة و كثر فيهم الشيب تغير الاسلوب، و لمّا سئل علي عليه السّلام عن ذلك، فقال: «إنّما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك و الدين قلّ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار» «1».

4. انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها، و كان الاسلوب المتبع في العصور السابقة هو اسلوب القاضي الفرد، و قضاؤه على درجة واحدة قطعية، و كان هذا النوع من القضاء مؤمّنا لهدف القضاء، و لكن اليوم لمّا دبّ الفساد إلى المحاكم و قلّ الورع اقتضى الزمان أن يتبدل اسلوب القضاء إلى اسلوب محكمة القضاء الجمع، و تعدّد درجات المحاكم حسب

______________________________

(1). نهج البلاغة: قسم الحكم، رقم 16.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 97

المصلحة الزمانية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط، و قد ذكرنا كيفية ذلك في بحوثنا الفقهية «1».

فزبدة القول هي:

1. انّ عنصري الزمان و المكان لا تمسان حصر التشريع في اللّه سبحانه أولا، و لا كرامة الكبريات و الأصول الشرعية ثانيا.

2. تأثير عنصري الزمان و المكان في محقّقات الموضوع.

3. تأثير عنصري الزمان و المكان في الوقوف

على ملاكات الأحكام.

4. تأثير عنصري الزمان و المكان في كيفية إجراء الحكم.

5. تأثيرها في منح نظرة جديدة نحو المسائل.

6. تأثيرها في تعيين الأساليب.

هذا كلّه في تأثير هما في الاجتهاد و استنباط الأحكام الأوّلية، و أمّا تأثيرهما في الأحكام الحكومية فسيوافيك البحث عنه في الفصل الثاني:

التفسير الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح

قد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بتأثير عنصري الزمان و المكان يجب أن يحدّد بما لا يمس كرامة الأصلين السابقين: حصر التقنين باللّه سبحانه و تعالى، تأبيد الأحكام الشرعية غير انّه ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ و هو تغيير الأحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية و بهذا يبرّر مخالفة بعض

______________________________

(1). انظر نظام القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء حيث ذكرنا فيه أنّ تعدّد درجات المحاكم لا ينافي كون القضاء الأوّل لازم الإجراء.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 98

الخلفاء للكتاب و السنّة قائلا بأنّ للحاكم الأخذ بالمصالح و تفسير الأحكام على ضوئها، و لنقدّم نموذجا.

دلّ الكتاب و السنّة على بطلان الطلاق ثلاثا، و انّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأخرى، يتخلّل بينها رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثا مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلّا طلاقا واحدا. و قد جرى عليه رسول اللّه و الخليفة الأوّل و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا يمضي من الطلاق الثلاث إلّا واحدة منها، و كان الأمر على هذا إلى سنتين من خلافة عمر، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. «1»

إنّ من المعلوم انّ استخدام الرأي فيما فيه نص من كتاب أو سنة، أمر خاطئ، و لو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما

لا نصّ فيه، و لمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّون عمله بتغيّر الأحكام، بالمصالح و المفاسد، و يعد ابن القيم أحد المتحمّسين لهذا الموضوع فقال: لمّا رأى عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع إلّا بإمضائها على الناس، و رأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع، أمضى عمل الناس و جعل الطلاق ثلاثا ثلاثا. «2»

يلاحظ عليه: أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق

______________________________

(1). مسلم: الصحيح: باب الطلاق الثلاث، الحديث 1.

(2). أعلام الموقعين: 3/ 48.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 99

آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعا.

و العجب انّ ابن القيم توجه إلى ذلك و قال: كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثا) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلّا يقع المحذور الذي يترتّب عليه، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته على التصويب، قال: قال عمر ابن الخطاب: ما ندمت على شي ء مثل ندامتي على ثلاث. «1»

______________________________

(1). أعلام الموقعين: 3/ 36، و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: 1/ 336.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 100

الفصل الثاني: دور الزمان و المكان في الأحكام الحكومية

ثم إنّ ما ذكرناه يرجع إلى دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإفتاء، و أمّا دور هما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأحكام الواقعية و لا الظاهرية،

فلها باب واسع نأتي بكلام موجز فيه.

إنّ تقدّم العناوين الثانوية على الأوّلية يحلّ العقد و المشاكل في مقامين:

الأوّل: إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأوّلي و الحكم الثانوي، فيقدّم الثاني على الأوّل، إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ، كتقدّم لا ضرر و لا حرج على الأحكام الضررية و الحرجية، و هذا النوع من التقدّم يرجع إلى باب الإفتاء و الاستنباط.

الثاني: إذا كان هناك تزاحم بين نفس الأحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لم يتدخل في فك العقد، و حفظ الحقوق لحصلت مفاسد، و هنا يأتي دور الحاكم و الفقيه الجامع للشرائط، المتصدي لمنصب الولاء، بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض بمعنى تعيين أنّ المورد من

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 101

صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين، و لا يحكم الحاكم في المقام إلّا بعد دقة و إمعان و دراسة للظروف الزمانية و المكانية و مشاورة العقلاء و الخبراء.

و بعبارة أخرى: إذا وقع التزاحم بين الأحكام الأوليّة فيقدّم بعضها على بعض في ظلّ هذه العناوين الثانوية «1»، و يقوم الحاكم الإسلاميّ بهذه المهام بفضل الولاية المعطاة له، فتصير هذه العناوين مفاتيح بيد الحاكم، يرفع بها التزاحم و التنافي، فمعنى مدخليّة الزمان و المكان في حكم الحاكم عبارة عن تأثير هما في تعيين أنّ المقام صغرى لأي كبرى من الكبريات، و أيّ حكم من الأحكام الواقعية، فيكون حكمه بتقديم إحدى الكبريين شكلا إجرائيّا للأحكام الواقعية و مراعاة لحفظ الأهمّ و تخطيطا لحفظ النظام و عدم اختلاله.

و بذلك يظهر أنّ حكم الحاكم الإسلامي يتمتّع بميزتين:

الأولى: إنّ حكمه بتقديم إحدى الكبريين، ليس حكما مستنبطا من الكتاب و السنّة

مباشرة و إن كان أساس الولاية و أصلها مستنبطا و مستخرجا منهما، إلّا أنّ الحاكم لمّا اعتلى منصّة الحكم و وقف على أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ دون الآخر للمقاييس التي عرفتها، يصير

______________________________

(1). العناوين الثانوية عبارة عن: 1. الضرورة و الاضطرار. 2. الضرر و الضرار. 3. العسر و الحرج.

4. الأهم فالأهم. 5. التقيّة. 6. الذرائع للواجبات و المحرمات. 7. المصالح العامّة للمسلمين.

و هذه العناوين أدوات بيد الحاكم، يحل بها مشكلة التزاحم بين الأحكام الواقعية و الأزمات الاجتماعية.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 102

حكمه حكوميّا و ولائيا في طول الأحكام الأوّلية و الثانوية و ليس الهدف من وراء تسويغ الحكم له إلّا الحفاظ على الأحكام الواقعيّة برفع التزاحم، و لذلك سمّيناه حكما إجرائيّا، ولائيّا حكوميّا لا شرعيّا، لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية، و ما يعالج به حكم لا من سنخ المعالج، و لو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين و التشريع.

الثانية: إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعا عن المصالح العامّة و صيانة القوانين الإسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة و الثانويّة، و لأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها، في ظلّ العناوين الثانويّة.

و بالجملة الفقيه الحاكم بفضل الولاية الالهية يرفع جميع المشاكل المماثلة في حياتنا، فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع، و هي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات و لا تمس كرامة الكبريات.

و لأجل توضيح المقام، نأتي بأمثلة نبين فيها مدخليّة المصالح الزمانية و المكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.

الأوّل: لا

شكّ أنّ تقوية الإسلام و المسلمين من الوظائف الهامّة، و تضعيف و كسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة، هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ بيع و شراء التنباك أمر محلّل في الشرع، و الحكمان من الأحكام الأوّلية و لم يكن أيّ تزاحم بينهما إلّا في فترة خاصة عند ما أعطى الحاكم العرفيّ امتيازا للشركة الأجنبية، فصار بيعه و شراؤه بيدها، و لمّا أحسّ الحاكم الشرعي آنذاك- السيد الميرزا الشيرازي قدّس سرّه- انّ استعماله يوجب انشباب

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 103

أظفار الكفّار على هيكل المجتمع الإسلامي، حكم قدّس سرّه بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال كمحاربة وليّ العصر عليه السّلام «1» فلم يكن حكمه نابعا إلّا من تقديم الأهمّ على المهمّ أو من نظائره، و لم يكن الهدف من الحكم إلّا بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإسلام و استقلال البلاد، و لا يحصل إلّا بترك استعمال التنباك بيعا و شراء و تدخينا و غيرها، فاضطرت الشركة حينئذ إلى فسخ العقد.

الثاني: إنّ حفظ النفوس من الأمور الواجبة، و تسلّط الناس على أموالهم و حرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإسلام أيضا، إلّا أنّه على سبيل المثال ربّما يتوقّف فتح الشوارع في داخل البلاد و خارجها على التصرّف في الأراضي و الأملاك، فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو و إلّا فللحاكم ملاحظة الأهمّ بتقديمه على المهمّ، و يحكم بجواز التصرّف بلا إذن، غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.

الثالث: إنّ إشاعة القسط و العدل ممّا ندب إليه الإسلام و جعله غاية لبعث الرسل، قال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ

بِالْقِسْطِ (الحديد/ 25).

و من جانب إنّ الناس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا، فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف و الصنعة و غيرهم، فللحاكم الإسلامي- حسب الولاية الإلهيّة- الإمعان و الدقة و الاستشارة

______________________________

(1). عام 1891 م و حكمه كالتالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*: «اليوم استعمال التنباك و التتن، بأي نحو كان، بمثابة محاربة إمام الزمان عجل اللّه تعالى فرجه الشريف».

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 104

و المشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتى يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين، فلو لم تحلّ العقد بالوعظ و النصيحة، فآخر الدواء الكيّ، أي: فتح المخازن و بيع ما احتكر بقيمة عادلة و تسعير الأجناس و غير ذلك.

الرابع: لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية و الخارجية، إلّا أنّ إجراء ذلك، إن كان موجبا لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين، فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر حسب ما يرى من المصالح.

الخامس: لو رأى الحاكم أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلّا لصنع الخمر و توزيعه بالخفاء، أورث فسادا عند بعض أفراد المجتمع و انحلالا في شخصيّتهم، فله أن يمنع من بيع العنب إلى هؤلاء.

إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه الحاكم غضّ النظر عن الظروف المحيطة به، حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر و تشخيص الصغرى كما لا يخفى.

هذا كلّه حول مدخلية الزمان و المكان في الاجتهاد في مقام الإفتاء أوّلا و منصة الحكم ثانيا، و أمّا سائر ما يرجع إلى ولاية

الفقيه فنتركه إلى محلّه.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 105

الفصل الثالث: دراسة في تأثير الزمان و المكان في الفقه السنّي

اشارة

طرحت هذه المسألة من قبل بعض فقهاء السنّة قديما و حديثا، و إليك التنويه بأسمائهم و ببعض كلماتهم:

1. ابن القيم الحنبلي (ت/ 751 ه) يقول في فصل «تغيّر الفتوى و اختلافها بحسب تغيّر الأزمنة و الأمكنة و الأحوال و النيّات و العوائد»:

هذا فصل عظيم النفع، و قد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج و المشقّة، و تكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنّ الشريعة مبناها و أساسها على الحكم و مصالح العباد في المعاش و المعاد، و هي عدل كلّها، و رحمة كلّها، و مصالح كلّها، و حكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، و عن الرحمة إلى ضدها، و عن المصلحة إلى المفسدة، و عن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة. «1»

______________________________

(1). اعلام الموقعين: 3/ 14 ط دار الفكر و قد استغرق بحثه 56 صفحة. فلاحظ.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 106

2. السيد محمد أمين أفندي الشهير ب «ابن عابدين» «1» مؤلّف كتاب «مجموعة رسائل» قال ما نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص، و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي، و كثيرا منها ما يبيّنه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلا، و لهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث

ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلا، للزم منه المشقة و الضرر بالناس، و لخالف قواعد الشريعة المبنيّة على التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم على أتم نظام و أحسن أحكام، و لهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا في قواعد مذهبه.

ثمّ إنّ ابن عابدين ذكر أمثلة كثيرة لما ذكره من الكبرى تستغرق عدّة صحائف «2» و لنذكر بعض الأمثلة:

أ. افتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن و نحوه لانقطاع عطايا المعلّمين التي كانت في الصدر الأوّل، و لو اشتغل المعلّمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم و ضياع عيالهم، و لو اشتغلوا بالاكتساب في حرفة

______________________________

(1). هو محمد أمين الدمشقي، فقيه الديار الشامية و إمام الحنفية في عصره، ولد عام 1198 ه و توفي عام 1292 ه، له من الآثار «مجموعة رسائل» مطبوعة.

(2). انظر رسائل ابن عابدين: 2/ 123- 145.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 107

و صناعة، يلزم ضياع القرآن و الدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم و كذا على الإمامة و الأذان كذلك، مع أنّ ذلك مخالف لما اتّفق عليه أبو حنيفة و أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني من عدم جواز الاستئجار و أخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم و الصلاة و الحج و قراءة القرآن و نحو ذلك.

ب. قول الإمامين «1» بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصّ عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة،

لأنّه كان في الزمن الذي شهد له رسول اللّه بالخيريّة، و هما أدركا الزمن الذي فشا فيه الكذب، و قد نصّ العلماء على أنّ هذا الاختلاف اختلاف عصر و أوان، لا اختلاف حجّة و برهان.

ج. تحقّق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام «أبي حنيفة» بناء على ما كان في زمنه من أنّ غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثمّ كثر الفساد فصار يتحقّق الإكراه من غيره، فقال محمد (ابن الحسن الشيباني) باعتباره، و أفتى به المتأخّرون لذلك.

و قد ساق الأمثلة على هذا النمط إلى آخر الرسالة.

3. و قد طرق هذا البحث أيضا الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء في كتابه القيّم «المدخل الفقهي العام» و قال ما نصّه:

______________________________

(1). الظاهر انّه يريد تلميذي أبي حنيفة: أبي يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و لم يكن الفصل بين الإمام أبي حنيفة و بينهم طويلا، فقد توفّي أبو حنيفة عام 150 ه و توفّي أبو يوسف عام 182 ه و توفي الشيباني عام 189 ه و إذا كان كذلك فلما ذا يعدّون القرون الثلاثة الأولى خير القرون، و الحقّ انّ بين السلف و الخلف رجالا صالحين و أشخاصا طالحين، و لم يكن السلف خيرا من الخلف، و لا الخلف أكثر شرّا من السلف و إنّما هي دعايات فارغة فقد شهد القرن الأوّل وقعة الطفّ و الحرّة في المدينة.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 108

الحقيقة انّ الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمن، فإنّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الأحكام إلّا تبدّل الوسائل و الأساليب الموصلة إلى غاية الشارع، فإنّ تلك الوسائل و الأساليب في الغالب لم تحدّد من الشريعة

الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجا و أنجح في التقويم علاجا.

ثمّ إنّ الأستاذ جعل المنشأ لتغير الأحكام أحد أمرين:

أ. فساد الأخلاق، و فقدان الورع و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان.

ب. حدوث أوضاع تنظيمية، و وسائل فرضية، و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكل من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة «نشر العرف» للشيخ ابن عابدين، و لكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد، و لنذكر كلا الأمرين و أمثلتهما.

أ. تغيير الأحكام الاجتهادية لفساد الزمان

1. من المقرر في أصل المذهب الحنفي انّ المدين تنفذ تصرفاته في أمواله بالهبة و الوقف و سائر وجوه التبرّع، و لو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلّها، باعتبار انّ الديون تتعلّق بذمّته فتبقى أعيان أمواله حرة، فينفذ فيها تصرّفه، و هذا مقتضى القواعد القياسية.

ثمّ لما فسدت ذمم الناس و كثر الطمع و قلّ الورع و أصبح المدينون

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 109

يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها، أو هبتها لمن يثقون به من قريب أو صديق، أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنبلي و الحنفي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلّا فيما يزيد عن وفاء الدين من أمواله» «1».

هذا في الفقه السنّي، و لكن في الفقه الإمامي ليس هناك أي مشكلة حتى نتوسل بعنصر الزمان و نلتزم بتغيّر الأحكام في ظلّه، لأنّ للمحجور حالتين:

الأولى: إذا حجر عليه الحاكم و حكم بإفلاسه فعند ذاك يتعلّق حقّ الغرماء بأمواله لا بذمّته، نظير تعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فلا يجوز له التصرف فيها بعوض كالبيع و الإجارة، و بغير عوض كالوقف و الهبة إلّا بإذنهم و إجازتهم.

الثانية: إذا

لم يحجر عليه فتصرفاته على قسمين: قسم لا يريد الفرار من أداء الديون و لا يلازم حرمان الديّان، فيجوز له التصرّف بأمواله كيفما شاء و القسم الآخر يريد من الصلح أو الهبة الفرار من أداء الديون، فالحكم بصحة تصرفاته- فيما إذا لم يرج حصول مال آخر له باكتساب و نحوه- مشكل. «2» وجهه: انّ الحكم بلزوم تنفيذها حكم ضرري يلحق بأصحاب الديون فلا يكون نافذا، أضف إلى ذلك انصراف عمومات الصلح و الهبة و سائر العقود عن مثل هذه العقود. و على ذلك فلا داعي لتبنّي تغير الحكم الشرعي بالعنصرين. بل الحكم الشرعي السائر مع الزمان موجود في أصل

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 543.

(2). لاحظ وسيلة النجاة: 133، كتاب الحجر، المسألة الأولى؛ و تحرير الوسيلة: 2/ 16.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 110

الشرع بلا حاجة إلى التوسل بعنصر «فساد الزمان».

2. في أصل المذهب الحنفي انّ الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب في مدة الغصب بل يضمن العين فقط إذا هلكت أو تعيّبت، لأنّ المنافع عندهم ليست متقوّمة في ذاتها و إنّما تقوم بعقد الإجارة و لا عقد في الغصب.

و لكن المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي نظروا تجرّؤ الناس على الغصب و ضعف الوازع الديني في نفوسهم، فأفتوا بتضمين الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان المغصوب مال وقف أو مال يتيم أو معدا للاستغلال على خلاف الأصل القياسي في المذهب زجرا للناس عن العدوان لفساد الزمان.

ثمّ أضاف إليها في التعليقة بأنّ الأئمّة الثلاثة ذهبوا إلى عكس ما ذهب إليه الاجتهاد الحنفي، فاعتبروا المنافع متقوّمة في ذاتها، كالأعيان، و أوجبوا تضمين الغاصب أجرة المثل عن المال

المغصوب مدة الغصب، سواء استعرض الغاصب منافعه أو عطّلها ثمّ قال: و هذا الاجتهاد أوجه و أصلح. «1»

أقول: إنّ القول بعدم ضمان الغاصب المنافع المستوفاة مستند إلى ما تفرّد بنقله عروة بن الزبير عن عائشة أنّ رسول اللّه قضى أنّ الخراج بالضمان. «2»

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 544.

(2). مسند أحمد بن حنبل: 6/ 49؛ و سنن الترمذي: 3، كتاب البيوع برقم 1286؛ و سنن النسائي:

7/ 254، باب الخراج بالضمان.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 111

فزعمت الحنفية انّ ضمان قيمة المغصوب لا يجتمع مع ضمان المنافع، و ذلك لأنّ ضمان العين في مقابل كون الخراج له، و لكن الاجتهاد غير صحيح جدا، لأنّ الحديث ناظر إلى البيوع الصحيحة، مثلا: إذا اشترى عبدا أو غيره فيستغلّه زمانا ثمّ يعثر منه على عيب كان فيه عند البائع، فله ردّ العين المبيعة و أخذ الثمن، و يكون للمشتري ما استغله، لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان في ضمانه و لم يكن له على البائع شي ء، و الباء في قوله بالضمان متعلّق بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي في مقابلة الضمان، أي منافع المبيع بعد القبض تبقى للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بطرف المبيع.

هذا هو معنى الحديث، و عليه شرّاح الحديث «1» و لا صلة للحديث بغصب الغاصب مال الغير و استغلال منافعه.

و الذي يفسّر الحديث وراء فهم الشرّاح انّ عروة بن الزبير نقل عن عائشة أنّ رجلا اشترى عبدا، فاستغلّه ثمّ وجد به عيبا فردّه، فقال: يا رسول اللّه إنّه قد استغلّ غلامي، فقال رسول اللّه: «الخراج بالضمان». «2»

و قد ورد من طرقنا أنّ الإمام الصادق عليه السّلام لمّا

سمع فتوى أبي حنيفة بعدم ضمان الغاصب قيمة المنافع التي استوفاها، قال: «في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تمنع الأرض بركتها». «3»

______________________________

(1). لاحظ شرح الحافظ جلال الدين السيوطي و حاشية الإمام السندي على سنن النسائي و غيره.

(2). سنن ابن ماجة: 2، برقم 2243.

(3). وسائل الشيعة: الجزء 13، الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 1 و الحديث طويل جدير بالمطالعة.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 112

ثمّ إنّه يدل على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» و المنافع مال، و لأجل ذلك يجعل ثمنا في البيع و صداقا في النكاح، مضافا إلى السيرة العقلائية في تضمين الغاصب المنافع المستوفاة، و على ذلك فليس هاهنا مشكلة حتى تعالج بعنصر الزمان، و لم يكن الحكم المزعوم حكما شرعيّا حتى يتغير لأجل فساد أهل الزمان.

3. في أصل المذهب الحنفي انّ الزوجة إذا قبضت مؤجّل مهرها تلزم بمتابعة زوجها حيث شاء، و لكن المتأخّرين لحظوا انقلاب الأخلاق و غلبة الجور، و انّ كثيرا من الرجال يسافرون بزوجاتهم إلى بلاد نائية ليس لهنّ فيها أهل و لا نصير، فيسيئون معاملتهنّ و يجورون عليهنّ، فأفتى المتأخرون بأنّ المرأة لو قبضت مؤجل مهرها لا تجبر على متابعة زوجها، إلى مكان إلّا إذا كان وطنا لها و قد جرى فيه عقد الزواج بينهما، و ذلك لفساد الزمان و أخلاق الناس، و على هذا استقرت الفتوى و القضاء في المذهب. «1»

أقول: إنّ لحلّ هذا النوع من المشاكل طريقا شرعيا في باب النكاح، و هو اشتراط عدم إخراجها من وطنها أو

أن يسكنها في بلد خاص، أو منزل مخصوص في عقد النكاح، فيجب على الزوج الالتزام به. و ليس مثل هذا الاشتراط مخالفا للكتاب و السنّة.

و لو افترضنا غفلة أولياء العقد عن الاشتراط و أراد الزوج إخراجها إلى بلاد نائية يصعب عليها العيش فيها و يعد حرجيّا لها، فللزوجة رفع الشكوى إلى الحاكم بغية عدم إخراجها من وطنها، فيحكم بعد تبيّن الحال بعدم

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 113

الإخراج نتيجة طروء العناوين الثانوية كالحرج و الضرر، فليس للزمان هنا أي مدخلية في تغيير الحكم، بل يكمن الحكم الشرعي في نفس الشرع.

4. في أصل المذهب الحنفي و غيره انّ القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الحوادث، أي أنّ علمه بالوقائع المتنازع فيها يصح مستندا لقضائه، و يغني المدّعي عن إثبات مدّعاه بالبيّنة، فيكون علم القاضي بواقع الحال هو البيّنة، و في ذلك أقضية مأثورة عن عمر و غيره، و لكن لوحظ فيما بعد انّ القضاة قد غلب عليهم الفساد و السوء و أخذ الرشا، و لم يعد يختار للقضاء الأوفر ثقة و عفة و كفاية بل الأكثر تزلّفا إلى الولاة و سعيا في استرضائهم و إلحافا في الطلب.

لذلك أفتى المتأخّرون بأنّه لا يصحّ أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي في القضاء بل لا بدّ أن يستند قضاؤه إلى البيّنات المثبتة في مجلس القضاء حتى لو شاهد القاضي بنفسه عقدا أو قرضا أو واقعة ما بين اثنين خارج مجلس القضاء ثمّ ادّعى به أحدهما و جحدها الآخر، فليس للقاضي أن يقضي للمدّعي بلا بيّنة، إذ لو ساغ ذلك بعد ما فسدت ذمم كثير من القضاة، لزعموا

العلم بالوقائع زورا، و ميلا إلى الأقوى وسيلة من الخصمين، فهذا المنع و إن أضاع بعض الحقوق لفقدان الإثبات لكنّه يدفع باطلا كثيرا، و هكذا استقر عمل المتأخرين على عدم نفاذ قضاء القاضي بعلمه.

على أنّ للقاضي أن يعتمد على علمه في غير القضاء من أمور الحسبة و التدابير الإدارية الاحتياطية، كما لو علم ببينونة امرأة مع استمرار الخلطة بينها و بين زوجها، أو علم بغصب مال؛ فإنّ له أن يحول بين الرجل

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 114

و مطلقته، و أن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات. «1»

أقول: يشترط المذهب الإمامي في القاضي: العدالة و الاجتهاد المطلق، فالقاضي الجائر لا يستحق القضاء و لا ينفذ حكمه.

و على ضوء ذلك فلا يترتب على عمل القاضي بعلمه أي فساد، لأنّ العدالة تصدّه عن ارتكاب الآثام.

و لو افترضنا إشغال منصة القضاء بالفرد الجائر فليس للقاضي العمل بعلمه في حقوق اللّه سبحانه، كما إذا علم أنّ زيدا زنى أو شرب الخمر أو غير ذلك، فلا يصحّ له إقامة الدعوى و إجراء الحدود لاستلزامه وحدة القاضي و المدعي من غير فرق بين كونه عادلا أو غيره.

و أمّا العمل بعلمه في حقوق الناس فلا يعمل بعلم غير قابل للانتقال إلى الغير بل يقتصر في العمل بعلمه بنحو لو طولب بالدليل لعرضه و إلّا فلا يجوز، و قد حقّق ذلك في كتاب القضاء.

5. من المبادئ المقرّرة في أصل المذهب انّ العمل الواجب على شخص شرعا لا يصحّ استئجاره فيه و لا يجوز له أخذ أجرة عليه، و من فروع هذا المذهب الفقهي انّ القيام بالعبادات و الأعمال الدينية الواجبة كالإمامة و خطبة الجمعة و

تعليم القرآن و العلم لا يجوز أخذ الأجرة عليه في أصل المذهب بل على المقتدر أن يقوم بذلك مجانا لأنّه واجب ديني.

غير انّ المتأخّرين من فقهاء المذهب لحظوا قعود الهمم عن هذه الواجبات، و انقطاع الجرايات من بيت المال عن العلماء ممّا اضطرهم إلى

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 546.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 115

التماس الكسب، حتى أصبح القيام بهذه الواجبات غير مضمون إلّا بالأجر، و لذلك أفتى المتأخّرون بجواز أخذ الأجور عليها حرصا على تعليم القرآن و نشر العلم و إقامة الشعائر الدينية بين الناس. «1»

أمّا الفقه الإمامي، فالمشكلة فيه مرتفعة بوجهين:

الأوّل: إذا كان هناك بيت مال معدّا لهذه الأغراض لا تبذل الأجرة في مقابل العمل، بل الحاكم يؤمّن له وسائل الحياة حتى يتفرّغ للواجب.

الثاني: امّا إذا لم يكن هناك بيت مال فإذا كان أخذ الأجرة حراما منصوصا عليه و كان من صلب الشريعة فلا يمسّه عنصر الزمان و لكن يمكن الجمع بين الأمرين و تحليله عن طريق آخر، و هو أن يجتمع أولياء الصبيان أو غيرهم ممّن لهم حاجة إلى إقامة القضاء و الأذان و الإفتاء فيشاركون في سد حاجة المفتي و القاضي و المؤذن و المعلم حتى يتفرّغوا لأعمالهم العبادية بلا هوادة و تقاعس، على أنّ ما يبذلون لا يعد أجرة لهم و إنّما هو لتحسين وضعهم المعاشي.

و بعبارة أخرى: القاضي و المفتي و المؤذّن و المعلم يمارس كلّ أعماله للّه سبحانه، و لكن بما انّ الاشتغال بهذه المهمة يتوقّف على سد عيلتهم و رفع حاجتهم فالمعنيّون من المؤمنين يسدّون عيلتهم حتى يقوموا بواجبهم و إلّا فكما أنّ الإفتاء واجب، فكذلك تحصيل الضروريات

لهم و لعيالهم أيضا واجب. و عند التزاحم يقدّم الثاني على الأوّل إذا في خلافه، خوف هلاك النفوس و انحلال الأسرة، و لكن يمكن الجمع بين الحكمين على الطريق

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2، برقم 547.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 116

الذي أشرنا إليه.

6. انّ الشهود الذين يقضى بشهادتهم في الحوادث يجب أن يكونوا عدولا، أي ثقات، و هم المحافظون على الواجبات الدينية المعروفون بالسرّ و الأمانة، و انّ عدالة الشهود شريطة اشترطها القرآن لقبول شهادتهم و أيّدتها السنّة و أجمع عليها فقهاء الإسلام.

غير أنّ المتأخّرين من فقهائنا لحظوا ندرة العدالة الكاملة التي فسّرت بها النصوص لفساد الزمن و ضعف الذمم و فتور الحس الديني الوازع، فإذا تطلب القضاة دائما نصاب العدالة الشرعية في الشهود ضاعت الحقوق لامتناع الإثبات، فلذا أفتوا بقبول شهادة الأمثل فالأمثل من القوم حيث تقلّ العدالة الكاملة.

و معنى الأمثل فالأمثل: الأحسن فالأحسن حالا بين الموجودين، و لو كان في ذاته غير كامل العدالة بحدها الشرعي، أي أنّهم تنازلوا عن اشتراط العدالة المطلقة إلى العدالة النسبية. «1»

أقول: إنّ القرآن- كما تفضّل به الكاتب- صريح في شريطة العدالة في تنفيذ شهادته، يقول سبحانه: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ (البقرة/ 282) و قال سبحانه: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (الطلاق/ 2).

مضافا إلى الروايات الواردة في ذلك المضمار، فتنفيذ شهادة غير العدل تنفيذ بلا دليل أو مخالف لصريح الكتاب، و لكن يمكن للقاضي تحصيل القرائن و الشواهد التي منها شهادة الأمثل فالأمثل التي تثبت أحد

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2/ 933- 934 برقم 551.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 117

الطرفين على

وجه يفيد العلم للقاضي، و يكون علمه قابلا للانتقال إلى الآخرين من دون حاجة إلى العمل بقول الأمثل فالأمثل.

ثمّ إنّ ترك العمل بشهادة غير العدول كما هو مظنّة إضاعة الحقوق، فكذلك هو مظنّة الإضرار على المحكوم عليه لعدم وجود العدالة في الشاهد حتّى تصونه عن الكذب عليه، فالأمر يدور بين المحذورين.

لو فسّر القائل العدالة بالتحرّز عن الكذب و إن كان فاسقا في سائر الجوارح لكان أحسن من تفسيره بالعدالة المطلقة ثمّ العدول عنها لأجل فساد الزمان.

7. أفتى المتأخّرون في إثبات الأهلّة لصيام رمضان و للعيدين بقبول رؤية شخصين، و لو لم يكن في السماء علّة تمنع الرؤية من غيم أو ضباب أو غبار بعد أن كان في أصل المذهب الحنفي، لا يثبت إهلال الهلال عند صفاء السماء إلّا برؤية جمع عظيم، لأنّ معظم الناس يلتمسون الرؤية، فانفراد اثنين بادّعاء الرؤية مظنّة الغلط أو الشبهة.

و قد علّل المتأخّرون قبول رؤية الاثنين بقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فلم تبق رؤية اثنين منهم مظنّة الغلط إذا لم يكن في شهادتهما شبهة أو تهمة تدعو إلى الشك و الريبة. «1»

و أمّا في الفقه الإمامي، فلا يعتبر قول العدلين عند الصحو و عدم العلّة في السماء إذا اجتمع الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بينهم بحيث يقوى احتمال اشتباه العدلين.

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2/ 934 برقم 549.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 118

و أمّا إذا لم يكن هناك اجتماع للرؤية- كما هو مورد نظر الكاتب- حيث قال: لقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فقبول قول العدلين- على وفاق القاعدة لا على خلافها، فليس للزمان هناك تأثير في الحكم الشرعي.

و بعبارة أخرى:

ليس في المقام دليل شرعي على وجه الإطلاق يدل على عدم قول العدلين في الصحو و عدم العلّة في السماء حتّى يؤخذ بإطلاقه في كلتا الصورتين: كان هناك اجتماع للرؤية أم لم يكن، بل حجّية دليل البيّنة منصرف عن بعض الصور، و هو ما إذا كان هناك اجتماع من الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بحيث قوى احتمال الاشتباه في العدلين، و أمّا في غير هذه الصورة فإطلاق حجّية أدلّة البيّنة باق بحالها، و منها ما إذا ادّعى العدلان و لم يكن اجتماع و لا تكاذب و لا مظنّة اشتباه.

هذه هي المسائل التي طرحها الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء مثالا لتغيّر الآراء الفقهية و الفتاوى لأجل فساد الزمان، و قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في العدول عن الحكم الشرعي، و ذلك لأحد الأمرين:

أ. إمّا لعدم ثبوت الحكم الأوّلي كما في عدم ضمان الغاصب للمنافع المستوفاة.

ب. أو لعدم الحاجة إلى العدول عن الحكم الشرعي، بل يمكن حل المشكل عن طريق آخر مع صيانة الحكم الأوّلي، كما في الأمثلة الباقية.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 119

ب. تغيير الأحكام الاجتهادية لتطوّر الوسائل و الأوضاع

قد سبق من هذا الكاتب انّ عوامل التغيير على قسمين:

أحدهما: ما يكون ناشئا من فساد الأخلاق، و فقدان الورع، و ضعف الوازع، و أسماه بفساد الزمان، و قد مرّ عليك أمثلته كما مرّت مناقشاتنا.

و الآخر: ما يكون ناشئا عن أوضاع تنظيمية، و وسائل زمنية جديدة من أوامر قانونية مصلحية و ترتيبات إدارية، و أساليب اقتصادية و نحو ذلك، و هذا النوع- عند الكاتب- كالأوّل موجب لتغيير الأحكام الفقهية الاجتهادية المقرّرة قبله إذا أصبحت لا تتلاءم معه، لأنّها تصبح عندئذ عبثا أو ضررا، و الشريعة منزّهة

عن ذلك، و قد قال الإمام الشاطبي (ت/ 790 ه) في الموافقات: لا عبث في الشريعة.

ثمّ طرح لها أمثلة و إليك بيانها:

1. ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهى عن كتابة أحاديثه، و قال لأصحابه: «من كتب عني غير القرآن فليمحه» و استمر الصحابة و التابعون يتناقلون السنّة النبوية حفظا و شفاها لا يكتبونها حتى آخر القرن الهجري الأول عملا بهذا النهي.

ثمّ انصرف العلماء في مطلع القرن الثاني بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، إلى تدوين السنّة النبوية، لأنّهم خافوا ضياعها بموت حفظتها و رأوا أنّ سبب نهي النبي عليه السّلام عن كتابتها إنّما هو خشية أن تختلط بالقرآن، إذ كان الصحابة يكتبون ما ينزل منه على رقاع، فلمّا عمّ القرآن و شاع

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 120

حفظا و كتابة، و لم يبق هناك خشية من اختلاطه بالحديث النبوي، لم يبق موجب لعدم كتابة السنّة، بل أصبحت كتابتها واجبة لأنّها الطريقة الوحيدة لصيانتها من الضياع. «1»

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن كتابة حديثه غير صحيح من وجوه:

أوّلا: روى البخاري أنّ رجلا من أهل اليمن طلب من النبي أن يكتب له خطبته فقال: اكتب لي يا رسول اللّه، فقال: اكتبوا لأبي فلان إلى أن قال: كتبت له هذه الخطبة. «2»

أضف إلى ذلك أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر في غير واحد من الموارد كتابة حديثه، يجدها المتفحص في مصادرها. «3»

و مع هذه الموارد الكثيرة التي رخّص النبيّ فيها كتابة الحديث، و العمل به، لا يبقى أيّ شك في

موضوعية ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من كتب عنّي غير القرآن فليمحه».

ثانيا: هل يصحّ أن يأمر اللّه سبحانه بكتابة الدين حفظا له، و احتياطا عليه، و في الوقت نفسه ينهى نبيّه عن كتابة الحديث الذي يعادل القرآن في الحجّية؟!

______________________________

(1). المدخل الفقهي العام: 2/ 933، و في الطبعة العاشرة في ترقيم الصفحات في المقام تصحيف.

(2). البخاري: الصحيح: 29، باب كتابة العلم.

(3). سنن الترمذي: 5/ 39، باب كتابة العلم، الحديث 2666؛ سنن الدارمي: 1/ 125، باب من رخص في كتابة العلم، سنن أبي داود: 2/ 318، باب في كتابة العلم، و مسند أحمد:

2/ 215 و ج: 3/ 162.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 121

ثالثا: العجب من الأستاذ أنّه سلّم وجه المنع، و هو أن لا يختلط الحديث بالقرآن، و قد نحته الخطيب البغدادي «1» في كتاب «تقييد العلم» «2» مع انّه غير تام، لأنّ القرآن الكريم في أسلوبه و بلاغته يغاير أسلوب الحديث و بلاغته، فلا يخاف على القرآن الاختلاط بغيره مهما بلغ من الفصاحة و البلاغة، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم، و هدم أصوله.

و الكلمة الفصل أنّ المنع عن كتابة الحديث كان منعا سياسيّا صدر عن الخلفاء لغايات و أهداف خاصّة، و الخسارة التي مني الإسلام و المسلمون بها من جرّاء هذا المنع لا تجبر أبدا، و قد فصلنا الكلام في فصل خاص من كتابنا بحوث في الملل و النحل. «3»

2. قبل إنشاء السجلات العقارية الرسميّة التي تحدد العقارات، و تعطي كلا منها رقما خاصا، كان التعاقد على العقار الغائب عن مجلس العقد لا بدّ لصحّته من ذكر حدود العقار، أي ما يلاصقه

من الجهات الأربع ليتميّز العقار المعقود عليه عن غيره، وفقا لما تقضي به القواعد العامة من معلومية محل العقد.

و لكن بعد إنشاء السجلات العقارية في كثير من الممالك و البلدان أصبح يكتفى قانونا في العقود بذكر رقم محضر العقار، دون ذكر حدوده، و هذا ما يوجبه فقه الشريعة، لأنّ الأوضاع و التنظيمات الزمنية أو جدت

______________________________

(1). أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392- 463 ه) مؤلّف تاريخ بغداد.

(2). تقييد العلم: 57.

(3). لاحظ: الجزء الأوّل من الكتاب المذكور: 60- 76.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 122

وسيلة جديدة أسهل و أتم تعيينا و تمييزا للعقار من ذكر الحدود في العقود العقارية، فأصبح اشتراط ذكر الحدود عبثا، و قد قدّمنا أنّه لا عبث في الشريعة.

أقول: إنّ الحكم الشرعي الأوّلي هو معلومية المبيع، و هذا هو لبّ الشريعة، و أمّا الباقي فهو ثوب يتغير بتغير الأزمان، فلا تحديد العقارات من الجهات الأربع حكم أصلي، و لا ذكر رقم محضر العقار، فالجميع طريق إلى الحكم الشرعي و هو معلومية المبيع و خروجه عن كونه مجهولا، و الشرط يحصل بكلا الوجهين و تغيير الثوب ليس له صلة بتغيير الحكم.

3. كذلك كان تسليم العقار المبيع إلى المشتري لا يتم إلّا بتفريغ العقار و تسليمه فعلا إلى المشتري، أو تمكينه منه بتسليم مفتاحه و نحو ذلك، فإذا لم يتمّ هذا التسليم يبقي العقار معتبرا في يد البائع، فيكون هلاكه على ضمانه هو و مسئوليته، وفقا للأحكام الفقهية العامّة في ضمان المبيع قبل التسليم.

و لكن بعد وجود الأحكام القانونية التي تخضع العقود العقارية للتسجيل في السجل العقاري. استقر الاجتهاد القضائي أخيرا لدينا على اعتبار التسليم حاصلا بمجرد تسجيل

العقد في السجلّ العقاري، و من تاريخ التسجيل ينتقل ضمان هلاك المبيع من عهدة البائع إلى عهدة المشتري، لأنّ تسجيل المبيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا في التسليم الفعلي، إذا العبرة في الملكية العقارية قانونا، لقيود السجلّ العقاري، لا للأيدي و التصرفات، و بتسجيل المبيع لم يبق البائع متمكنا أن يتصرف في العقار المبيع بعقد آخر استنادا إلى وجوده في يده، و جميع الحقوق و الدعاوي المتفرعة

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 123

عن الملكية، كطلب نزع اليد، و طلب الآخرة، و غير ذلك تنتقل إلى المشتري بمجرّد التسجيل.

فبناء على ذلك يصبح من الضروري في فقه الشريعة أن يعتبر لتسجيل العقد العقاري حكم التسليم الفعلي للعقار في ظل هذه الأوضاع القانونية التنظيمة الجديدة. «1»

أقول: اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تلف المبيع الشخصي قبل قبضه بآفة سماوية فهو من مال بائعه، و الدليل عليه من طرقنا هو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه». «2»

و روى عقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه السّلام في رجل اشترى متاعا من رجل و أوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه، قال: آتيك غدا إن شاء اللّه فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: «من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع و يخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يرد ماله إليه». «3»

و أمّا من طرق أهل السنّة، روى البيهقي عن محمد بن عبيد اللّه الثقفي أنّه اشترى من رجل سلعة فنقده بعض الثمن و بقي بعض، فقال: ادفعها إليّ فأبى البائع، فانطلق المشترى

و تعجّل له بقية الثمن فدفعه إليه، فقال:

ادخل و اقبض سلعتك، فوجدها ميتة، فقال له: رد عليّ مالي، فأبى، فاختصما إلى شريح، فقال شريح: رد على الرجل ماله و ارجع إلى جيفتك

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2/ 931.

(2). النوري: مستدرك الوسائل: 13، الباب 1 من أبواب الخيار، الحديث 1.

(3). الوسائل: 12، الباب 10 من أبواب الخيار، الحديث 1.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 124

فادفنها. «1»

و على هذا فالميزان في رفع الضمان على البائع هو تسليم المبيع و تسليم كلّ شي ء بحسبه، و الجامع هو رفع المانع من تسليط المشتري على المبيع و إن كان مشغولا بأموال البائع أيضا إذ لم يكن هنا أي مانع من الاستيلاء و الاستغلال.

و على ضوء ذلك فتسليم البيت و الحانوت مثلا بإعطاء مفتاحهما، و أمّا جعل مجرّد تسجيل العقد في السجل العقاري رافعا للضمان بحجة انّ تسجيل البيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا للتسليم الفعلي اجتهاد في مقابل النص بلا ضرورة ما لم يكن تسجيل العقد في السجل العقاري متزامنا مع رفع الموانع من تسلّط المشتري على المبيع، إذ في وسع المتبايعين تأخير التسجيل إلى رفع الموانع.

و بعبارة أخرى: الميزان في رفع الضمان هو تحقّق التسليم بالمعنى العرفي، و هو قد يزامن التسجيل في السجل العقاري و قد لا يزامن، كما لو سجل العقد في السجل و لكن البائع أوجد موانع عاقت المشتري عن التسلّط على المبيع، فما لم يكن هناك إمكان التسلّط فلا يصدق التسليم.

على أنّ المشتري بالتسجيل و إن كان يستطيع أن يبيع العقار و لكنّه يعجز عن الانتفاع بالمبيع الذي هو المهم له ما لم يكن هناك تسليم فعلي.

4. أوجب

الشرع الإسلامي على كلّ زوجة تطلّق من زوجها عدّة

______________________________

(1). البيهقي: السنن: 5/ 334، باب المبيع يتلف في يد البائع قبل القبض.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 125

تعتدها، و هي أن تمكث مدة معيّنة يمنع فيها زواجها برجل آخر، و ذلك لمقاصد شرعية تعتبر من النظام العام في الإسلام، أهمها، تحقّق فراغ رحمها من الحمل منعا لاختلاط الأنساب.

و كان في الحالات التي يقضي فيها القاضي بالتطليق أو بفسخ النكاح، تعتبر المرأة داخلة في العدّة، و يبدأ حساب عدّتها من فور قضاء القاضي بالفرقة، لأنّ حكم القاضي في الماضي كان يصدر مبرما واجب التنفيذ فورا، لأنّ القضاء كان مؤسسا شرعا على درجة واحدة، و ليس فوق القاضي أحد له حق النظر في قضائه.

لكن اليوم قد أصبح النظام القضائي لدينا يجعل قضاء القاضي خاضعا للطعن بطريق الاستئناف، أو بطريق النقض، أو بكليهما. و هذا التنظيم القضائي الجديد لا ينافي الشرع، لأنّه من الأمور الاستصلاحية الخاضعة لقاعدة المصالح المرسلة، فإذا قضى القاضي اليوم بالفرقة بين الزوجين وجب أن لا تدخل المرأة في العدّة إلّا بعد أن يصبح قضاؤه مبرما غير خاضع لطريق من طرق الطعن القضائي. و ذلك إمّا بانقضاء المهل القانونية دون طعن من الخصم، أو بإبرام الحكم المطعون فيه لدى المحكمة المطعون لديها و رفضها للطعن حين ترى الحكم موافقا للأصول.

فمن هذا الوقت يجب اليوم أن تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها لا من وقت صدور الحكم الابتدائي، لأنّها لو اعتدت منذ صدور الحكم الابتدائي لربما تنقضي عدتها و تتحرّر من آثار الزوجية قبل الفصل في الطعن المرفوع على حكم القاضي الأوّل بانحلال الزوجية ثمّ ينقض هذا الحكم لخلل تراه

المحكمة العليا فيه، و هذا النقض يرفع الحكم السابق و يوجب

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 126

عودة الزوجية. «1»

أقول: إنّ الحكم الأوّلي في الإسلام هو انّ الطلاق بيد من أخذ بالساق «2»، فللزوج أن يطلّق على الشروط المقرّرة قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ رَبَّكُمْ (الطلاق/ 1).

نعم لو اشترط الزوجان في سجل العقد أن يكون الطلاق بيد المحكمة بمعنى انّه إذا أدركت انّ الطلاق لصالح الزوجين فله أن يحكم بالفرقة و الانفصال، و المراد من الحكم بالفرقة أمران:

أوّلا: انّ الطلاق لصالح الزوجين.

ثانيا: تولّي إجراء صيغة الطلاق.

فلو كان قضاء القاضي بالفرقة على درجة واحدة، و ليس فوقه أحد له حقّ النظر في قضائه فيقوم بكلا الأمرين: حق الانفصال و تنفيذه بإجراء صيغة الطلاق و يكون الحكم بالفرقة مبدأ للاعتداد.

و لو كان النظام القضائي يجعل قضاء القاضي خاضعا للطعن بطريق الاستئناف، أو بطريق النقض أو بكليهما، فلأجل الاجتناب عن بعض المضاعفات التي أشير إليها تقتصر المحكمة الأولى على الأمر الأوّل- إنّ الطلاق لصالح الزوجين- و يؤخر الأمر الثاني إلى إبرامه، فعند ذلك تجرى صيغة الطلاق من قبل المحكمة الثانية و تدخل المرأة في العدة و يبدأ

______________________________

(1). مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام: 2/ 932.

(2). مجمع الزوائد: 4/ 334، باب لا طلاق قبل النكاح.

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 127

حسابها.

و بذلك يعلم أنّ ما ضربت من الأمثلة لتأثير الزمان و المكان بعيدة عمّا يروم إليه، سواء كان العامل للتأثير هو فساد الأخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع، أو حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل زمنية، فليس لنا

في هذه الأمثلة أيّ حافز من العدول عمّا عليه الشرع.

و حصلة الكلام: أنّ الأستاذ قد صرّح بأنّ العاملين- الانحلال الأخلاقي و الاختلاف في وسائل التنظيم- يجعلان من الأحكام التي أسّسها الاجتهاد في ظروف مختلفة خاضعة للتغيير، لأنّها صدرت في ظروف تختلف عن الظروف الجديدة.

و لكنّه في أثناء التطبيق تعدّى تارة إلى التصرّف في الأحكام الأساسية المؤبدة التي لا يصحّ للفقيه الاجتهاد فيها، و لا أن يحدث بها أيّ خدشة، و أخرى ضرب أمثلة لم يكن للزمان أيّ تأثير في تغيير الحكم المستنبط.

هذا بعض الكلام في تأثير عنصري الزمان و المكان في الاستنباط.

تمّت الرسالة بيد مؤلّفها العبد الفقير جعفر السبحاني في صبيحة يوم الجمعة المصادف يوم العشرين من رجب المرجب من شهور عام 1418 ه حامدا مصلّيا على النبي و آله في مدينة قم المقدسة

رسالة في تأثير الزمان و المكان على استنباط الأحكام، ص: 136

ما نشر عن المؤلف في حقلي الفقه و الأصول

1. المواهب في تحرير أحكام المكاسب.

2. نظام الطلاق في الإسلام.

3. نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغراء في جزءين.

4. نظام الارث في الإسلام.

5. نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية في جزءين.

6. ضياء الناظر في أحكام صلاة المسافر.

7. الاعتصام بالكتاب و السنة (فقه مقارن).

8. عشر مسائل فقهية.

9. المختار في أحكام الخيار.

10. تهذيب الأصول، في جزءين تقريرا لدرس الإمام الخميني قدّس سرّه.

11. المحصول في علم الأصول، في أربعة أجزاء.

12. الرسائل الأربع، و هي:

1. الملازمة بين حكمي العقل و الشرع.

2. قاعدة لا ضرر.

3. القول المفيد في الاجتهاد و التقليد.

4. التسامح في أدلة السّنن.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.